في الساعات الأولى من تلك الليلة المؤلمة ، بدأت ملامح الرعب تبدو من بعيد ، فقد كان الليل حالكا مظلما ، و الجو متجهما عبوسا،و كان البرق يخطف الأبصار من كل جانب ، و السحب الكثيفة هنا و هناك خلف تلك الجبال و التلال البعيدة تذرف الأمزان فتغرق السفوح و الشعاب الغائرة ، فتذيبها سيولا و سيولا ، فكانت تلك السيول وبسرعة رهيبة تتهاوى منحدرة تبحث عن مستقر لها ،فتصطدم بأخرى هادرة ،فتزيدها غضبا و عنفا،و تجتمع بأخرى و بأخرى فتزداد قوة و بطشا ،فلا يبقى شيء أمامها إلا و صبت جام غضبها عليه ، فاقتلعته و جرفته في طريقها الطويل و المميت، لقد هاجت على كل شيء مرت عليه، دمرت القرى ،و مزقت الأراضي ، و اقتلعت الأشجار و الصخور العظيمة ،و هدمت الجدران و المنازل فوق رؤوس ساكنيها، و حملت الأثاث و الماشية نحو حتفها المحتوم ...
و يبدأ الفصل الأسوأ رعبا حين يقترب ضوء البرق ، فيخطف الأبصار ، و أصوت الرعود تصم الآذان ، فيعلو صراخ الأطفال و النساء في كل ثانية، في كل بيت ، و من خلف كل جدار ... حينئذ كانت السماء تسكب القرب فوق الرؤوس وفوق التلال و في بطون الأودية، فتزيد الوضع سوء فوق سوء.
حينها تتقطع الأنفاس مرة بعد مرة ، و الناس تجري هنا و هناك تبحث عن مأوى، من تلك الجائحة المرعبة، و الموت الوشيك ، فتهرب من مكان إلى مكان ، ومن ركن إلى ركن ، وما إن تستقر ، حتى يحيطها الطوفان من كل جانب ، فتأوي إلى ملاذ أخير ، و تتراكم النفوس بعضها فوق بعض، فيزيد خوفها ، و يعلو نحيبها، و يخنقها الرعب من كل جانب ،فيسقط هذا مغشيا عليه ، و تنوح تلك خوفا على أطفالها و فلذات كبدها ، و يفقد ذاك السيطرة ، فيجري مشدوها و يدور حول نفسه مرة، و يجلس مرة أخرى ، و يضحك تارة و يبكي تارة أخرى...
و على بعد أمتار قليلة من هناك ، كان النحيب و الصراخ يعلو و يصم الأذان و يقطع الأفئدة ، طفل تشبث بما تبقى من جدار والده ، و يمسك الحياة بأظافرة ، وقد أحاط به السيل من كل جانب، وهو يصيح و يستغيث ، و قد بح صوته ، و انقطع نفسة،، يا ناس أنقذوا أمي ،،أنقذوا أبي ،،أنقذوا أخوتي ،لقد جرفهم السيل...يا ناس ،،،يا ناس.......
يا الله...ما أقسى تلك اللحظات و أصعبها....
لقد و قفت مع الآخرين و على بعد أمتار منه ، لم أستطع أن أقدم له المساعدة و النجدة ، لقد وقفت عاجزا ضعيفا، لقد حال بيني و بينه سيل عظيم ، يحمل أطنانا من الأثاث و الأشجار و يحمل بينها سيارة تزن أطنانا ، و كأنها دمية لطفل تتداعى ، أو غصن شجرة في مهب الريح ، و أنوارها تضيء مرة و تنطفىء مرة ، و كأنها هي أيضا تطلب النجدة و المساعدة، و يجرفها السيل إلى مكان بعيد...
و تهدأ السماء ، فيهدأ السيل ، و تهدأ النفوس ، و تتنفس الصعداء ، و تعود القلوب الى مكانها بعد أن بلغت الحناجر.
يا الله ! لقد كان الوضع أشبه بكابوس مريع ، و حلم فضيع ،كنا نحاول أن نصحوا منه بقرص بعضنا تارة ، و عضها أخرى ، و لكن دون جدوى...
و تمر ساعات تلك الليلةالبئيسة كأنها سنين ، فقد كانت بطيئة جدا، لم يزر النعاس فيها الجفون ، و لم تكتحل عين فيها بنوم ..
و تنسلخ تلك الليلة المشؤمة، و ينبلج صباحها ، فتنكشف الفاجعة ، و تنجلي فضاعة المظهر ، و هول الكارثة، و شدة المصيبة...
لترى حينها أن السيل الهادر قد دمر كل شيء ،فتلك البيوت التي فر أصحابها بجلودهم منها، أصبحت أثرا من بعد عين . فلا تر إلا أكواما من الحجارة و الأخشاب يعلو بعضها فوق بعض ، و لا تر الا جثث الناس و الماشية محشورة بين الركام و الأشجار ، و لا تر إلا الأسى و الحزن في عيون المنكوبين، و خيبة الأمل تلفهم من كل جانب، فقد أصبحوا بين ليلة و ضحاها لا يجدون إلا السماء لحافا لهم و الأرض لهم فراشا ، و أصبحوا و قد خسروا كل شيء إلا حياتهم ...
حقا! لقد كانت أطول ليلة في حياتي ، عايشتها بكل تفاصيلها المرة كلمة كلمة ، و حرفا حرفا ..
لقد كانت ليلة واحدة ، لكنها كانت تعادل السنين.لأنها أقسى ليلة عشتها في حياتي....